امتهان الزراعة؛ ثقافة مزروعة في المدارس العربية بالفترة الانتدابية

ممارسات في الميدان من أجل فهم أفضل للطلبة، فهم محور العملية التعليمية كاملة، هكذا كانت التربية الزراعية في المدارس العربية خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين.

كان يتم تطبيق الدروس المقررة حول الزراعة من أجل محاولة النهوض في هذا القطاع. فكان القطاع الزراعي يشكل جزءًا مهمًا من الاقتصاد الفلسطيني آن ذاك (ولا يزال)، وهذا دفع العديد من الجهات إلى التركيز على الزراعة من أجل تطويرها والارتقاء بها إلى الأفضل. ومن ضمن الجهات التي حاولت النهوض بالزراعة كان قطاع التعليم المدرسي بكافة أشكاله، لكن التساؤل كيفية حدوث عملية الارتقاء في الممارسات الزراعية حتى أصبحت ثقافة مدرسية تتناولها معظم المدارس في فلسطين الانتدابية؟

(تعليم أطفال أساليب الزراعة في قرية العباسية. مجلة هنا القدس، 13 تشرين الأول 1940)​​

من المنطقي القول أن القطاع التعليمي يهدف دومًا إلى تمرير أفكار ورسائل يحاول إيصالها إلى الطلبة، ليس في مجال معين بل في مجالات مختلفة ومتعددة، فقطاع التعليم هو قطاع واسع يحمل جوانب متعددة، لكن الذي يربط كافة جوانبه هي الرسالة التي يهدف إلى تمريرها، بالتالي إحدى الأدوات التي تم تسويغها للنهوض في الزراعة هي رفع مستوى الوعي والمعرفة حول الزراعة إلى الطلبة، فتغطي هذه الجزئية الجانب النظري للطلاب. أما الأمر الآخر الذي تم تسويغه بشكل كبير في تلك الحقبة الزمنية فكان الانتقال إلى الممارسات التعليمية وعدم اقتصار التعليم على مستوى النظرية، بل تعداه إلى التطبيق الذي كان في أغلبه خارج الغرف الصفية المغلقة والتي بدأت بالظهور ضمن فئة معينة وبعد ذلك انتشرت لتصبح ثقافة تربوية في أغلب المدارس ولتتعدد أساليب تعليم الممارسات الزراعية لتشمل ممارسات زراعية مختلفة تبدأ من زراعة أمور عام مثل أشتال الفواكه وتصل إلى ممارسات زراعية متخصصة يتم تدريسها في المدارس والكليات المتخصصة.

(معلم يقوم بتعليم الطلاب بعض من الأساليب الزراعية خارج الغرفة الصفية. جريدة القافلة، 20 حزيران 1947)

بدأ الأمر  بافتتاح مدارس متخصصة بمواضيع الزراعة مثل مدرسة خضوري الزراعية التي افتتحتها سلطات الانتداب البريطاني عام 1931  بالقرب من مدينة طولكرم، والتي كان يرأسها الأستاذ أكرم الركابي. فكانت هذه المدرسة تحمل (ولا تزال) رسالة أساسية حول التعليم الزراعي المتخصص. وبعد ذلك لم يعد يقتصر الأمر على وجود المدارس المتخصصة لتعليم الممارسات الزراعية في الميدان، بل بدأت ثقافة التربية الزراعية بالانتشار بين المدارس العامة من خلال التوجه إلى إيجاد أراضٍ تكون قريبة من مبنى المدرسة لتشكل مختبرًا ميدانيًا لتعليم الطلبة، على سبيل المثال تناولت صحيفة فلسطين الصادرة ب24 أيلول عام 1932 خبرًا حول نية مدرسة البيرة إيجاد قطعة أرض “يتمرن فيها الطلاب على الممارسات الزراعية” وذلك من أجل تنمية المهارات الزراعية بين طلبة المدرسة. بعد ذلك شهدت تلك الفترة تطورًا آخر وهو انتساب الطالبات الإناث إلى المدارس الزراعية وعدم اقتصارها على الطلاب الذكور كما كان متبعًا، وقد بدأ ذلك عام 1946 عندما تم قبول 30 طالبة في كلية الزراعة بعد رفض طلباتهن مراتٍ عديدة قبل ذلك.

وهكذا انتشرت ثقافة التربية الزراعية بين المدارس العربية خلال الفترة الانتدابية التي امتدت زهاء الثلاثون عامًا. فبدأت بفئة معينة من المدارس والطلاب ومن ثم انتشرت إلى كثير من المدارس وامتدت لتشمل الطالبات الإناث.

 

تعالوا لنتعرف على متبرع إقامة مدرسة خضوري (أصبحت الآن جامعة)

(مجلة هنا القدس، الأحد الموافق 12 تموز 1942)

هل تعلمون أن المتبرع لإقامة مدرسة خضوري للزراعة الموجودة في مدينة طولكرم والتي تحولت فيما بعد إلى جامعة هو السير ألس خضوري من هونج كونج! 
تقديرًا لجهوده وتبرعاته تم إطلاق اسمه على مبنى المدرسة الجديد، هذه المدرسة التي بعثت التفاؤل في نفوس المهتمين بتطوير الزراعة الفلسطينية قد تم افتتاحها رسميًا عام 1931 على مساحة قدرها 400 دونمًا غرب طولكرم. وبالتزامن مع افتتاح المدرسة الزراعية العربية الأولى في فلسطين تم افتتاح مدرسة يهودية أخرى من ذات المتبرع في جبل طابور بالقرب من العفولة. 

كان يا ما كان: حين قرر كامل الكيلاني أن يكتب أدب الأطفال

تعالوا وتعرفوا على كامل الكيلاني ومشروعه النوعيّ للأطفال

​منذ القدم والحكاية الشعبية للأطفال كانت مركز الثقافية العربية، إذ تناقلها الناس بين بعضهم البعض، لكن كامل الكيلاني المصري الجنسية والمولود عام 1897 قرر أن يأخذ قصص الأطفال نحو اتجاه آخر، اتجاه أكثر أدبي وأكثر علمي ليبدأ مشروعه النوعيّ وهو كتابة قصص الأطفال.

في مقدمة طريقه في أحدى كتبه، يقول الكيلاني موجهاً كلامه للطفل العربي، اخترت أن “أسهل عليك الأمر فتقرأ بنفسك أحسن القصص التي تحبها، لتقصها أنت على أبويك وجدتك وعلى أصحابك الأعزاء”

كامل الكيلاني، قصص جديدة للأطفال: بابا عبد الله والدرويش، مطبعة المعارف ومكتبتها في مصر.

كانت رواية السندباد البحري أول قصة كتبها للأطفال عام 1927، الرواية مستمدة من رواية “ألف ليلة وليلة” التراثية، ولكن الكيلاني يوضح أسباب استحضارها، إذ يقول أن الرواية الأصلية لم تحظ بالانتشار لركاكة الأسلوب وغياب الصور وضعف الخيال وبالتالي فمشروع الكيلاني هو الكتابة للأطفال بأسلوب سهل يحبب القراءة على الأطفال، ثم تزيين القصص بالصور لكي تجذب الأطفال كل ذلك لأجل تحبيب القراءة والمطالعة.

كامل الكيلاني، السندباد البحري، مطبعة المعارف ومكتبتها في مصر.

نجح مشروع الكيلاني نجاحاً جميلاً وانتشرت قصصه في الكثير من الدول العربية، ولكي ينوع الكيلاني مصادره فقد استوحى أحيانًا قصصه من التراث العربي الإسلامي كقصة السندباد التي ذكرناها أعلاه أو من التراث المشرقي كالهند والتي كتب من وحي قصصها مجموعة حكايات مثل قصاص الأثر، القصر الهندي، في غابة الشياطين وغيرهم.


كامل الكيلاني، قصاص الأثر، مطبعة المعارف ومكتبتها في مصر.

كما استوحى الكيلاني قصصاً خيالية لم يُعرف لها منشأ كقصة “في بلاد العجائب.


​لأكثر من ثلاثين عام استمر مشروع الكيلاني والذي فيه كتب خلالها ما يقارب ال250 قصة، لتتحول قصصه إلى معالم أساسية من معالم الطفولة العربية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ولما توفى الكيلاني عام 1959 كان قد خلف وراءه إرثًا ثميناً، وربما فقط بعد وفاته تنبه النقاد لأهمية ما خلفه الكيلاني الذي شق طريقاً جديداً في الأدب ليحصل وبجدارة على لقب “رائد أدب الأطفال”.

الجانب السياسيّ للغة العربية في الصحافة الفلسطينية

اللغة العربية كمشروع سياسي من منظور الصحافة الفلسطينية

شكّل خوف الفلسطينيين من مشروع “التتريك” في نهاية الحقبة العثمانيّة أساس ذلك، حيث حاول العثمانيون وعبر التتريك فرض اللغة التركيّة على البلاد العربيّة، والتي بدأت ملامحها تظهر من خلال إدخال اللغة التركيّة للمؤسسّات والجهات الرسميّة في الدولة، اضافة لإدخال اللغة التركية في الكثير من المدارس العربيّة في مصر وبلاد الشام وغيرها من المناطق العربيّة، وقد ازداد الأمر بشكل ملحوظ بعد العام 1908، ممّا حدا بالعرب عامّة والفلسطينيّين خاصّة إلى العمل على تعزيز اللغة العربية. فالنخب الثقافيّة العربيّة عملت على تأسيس أطر ونوادي قوميّة وعربيّة، كما وعمل المثقّفون العرب على إحياء العلوم والآداب والترجمات، فيما ذهب آخرون نحو تعزيز حضور اللغة العربيّة في المدارس والكتاتيب.

من هنا نرى أنّ الصحافة الفلسطينيّة تزخر بمقالات ونصوص لتعزيز اللغة العربيّة والتنبيه بمخاطر أفولها، وسيعمل على ذلك نخبة من الكتّاب الفلسطينيّين، أمثال: محمد اسعاف النشاشيبي وحبيب الخوري وخليل السكاكيني وأديب فرحات وتوفيق الزيبق والشيخ علي الريماوي، وهم بدورهم سيتحوّلون إلى نخبة المجتمع الفلسطينيّ في حينه.

إنّ مقالة اسعاف النشاشيبي الواردة في مجلّة “النفائس العصريّة” تحمل كمًّا شعوريًّا هائلًا إتّجاه التخوّف من واقع اللغة العربيّة والخطر المحدق بها كما رآه النشاشيبي

النفائس العصريّة، 1 شباط 1911

(لقراءة المزيد من “النفائس العصرية” في أرشيف جرايد، اضغطوا هنا!)

إنّ شعور الخوف على اللغة العربيّة لن ينقضي بانقضاء الدولة العثمانيّة، بل سيستمرّ مع الانتداب البريطاني، ولكن الخوف على اللغة سيختلف هذه المرّة وسيكون مركّبًا، فاللغة العربية ستفقد مركزيّتها مرّة أخرى مع اعلان الانتداب الذي سيعلن منذ بدايته أنّ اللغات الرسميّة في البلاد هي العربيّة والانجليزيّة والعبريّة، ممّا سيولد شعور الخوف مجدّدًا على اللغة العربيّة، وهو ما سيظهر في العديد من الكتابات التي يمكن من خلالها تلمس الشعور بالخطر، ولكن هذه المرّة في مواجهة اللغتين العبريّة والانجليزيّة.

مرآة الشرق، 14 آذار 1931

(اضغطوا هنا لقراءة المزيد من “مرآة الشرق” في أرشيف جرايد)

يبدو أنّ هذا الشعور والذي يظهر في منشورات العديد من الكتّاب الفلسطينيّين في تلك الفترة سيولد ردّة فعل لدى الفاعلين في الحيّز الاجتماعيّ حيث سيُطالب الكثيرون بافتتاح المدارس، وسيناشد بعض الكتاب ذوي القرار بافتتاح جامعة، فيما سيدعو آخرون لتشييد مجمع للغة العربيّة

مرآة الشرق، 11 تشرين الأول 1930

(لقراءة المقالة الكاملة، اضغطوا هنا)

​انتشار المدارس وازدياد أعداد المتعلّمين فيها سيساهم في ازدياد الذي يجيدون القراءة والكتابة، هذا ما يوضّحه جبرائيل كاتول – مفتّش وزارة المعارف، في مقاله “نظام التعليم في فلسطين، المدارس وازالة الأمية”

المنتدى، 1 تموز 1943

(​لتصفّح الأعداد الكاملة من “المنتدى” اضغطوا هنا​)

ان هذا الازدياد المتسارع في المتعلّمين سيساهم في تنشيط الصحافة الفلسطينيّة، كون أنّ الآلاف سنويًّا ينضمّون لشريحة مستهلكي الصحافة، هكذا ستتزايد أعدادها، وستقفز مبيعات الصحف من 12.500 عدد تقريبًا عام 1914 إل 20.000 – 25.000 عدد بين 1945-1948[1].

التطوّر المُلفت في الصحف والتعليم الذي سيُساهم في تعزيز اللغة العربية، سواء عبر ازدياد المتعلّمين الذي يتقنونها، أو عبر توفير وسيلة التواصل الأكثر انتشارًا وهي الصحف العربيّة، التي ستوفّر عاملًا يعزّز حضور اللغة بين الناس سواء من خلال مضامينها الأدبيّة التي ذكرناها لاحقًا أو من خلال طرح ونقاش موضوعات مهمّة متعلّقة باللغة العربيّة، والتي كانت تسعى لتوعية القرّاء وتعزيز اللغة العربيّة، مثل زاوية “اللغة” التي أطلقتها صحيفة مرآة الشرق، والتي حاولت من خلالها أن تشير في كلّ مرة لكلمة واحدة في اللغة العربية، توضّح أصولها وتشرح معناها.

الدفاع 18 حزيران 1935

(​يمكنكم قراءة المزيد من جريدة “الدفاع” بالضغط هنا)

مرآة الشرق، 19 أيلول 1934

(يُمكنكم الاطلاع على تفاصيل إضافية عن “مرآة الشرق” من هنا​)

ذهبت صحف أخرى إلى النشر عن آخر إصدارات الكتب باللغة العربيّة أو حولها، فيما ذهبت أخرى لاستكتاب مفكّرين فلسطينيّين للحديث عن قضايا اللغة العربيّة واشكاليّاتها.

المنتدى، 15 شباط 1946

(​من هنا يمكنكم قراءة تفاصيل إضافيّة عن مجلّة “المنتدى”​)

من جهة أخرى ناضلت الصحف الفلسطينيّة لتعزيز حضور اللغة العربيّة في الحيّز العام كالدوائر الحكوميّة أو الرسميّة

الدفاع، 16 تشرين الثاني، 1935

(اضغطوا هنا لقراءة المزيد عن جريدة “الدفاع”)

فلسطين، 7 حزيران 1945

(بالضغط على هذا الرابط يُمكنكم قراءة مزيد من التفاصيل عن جريدة “فلسطين”)

كانت قضايا الترجمة قد شغلت الكتّاب الفلسطينيّين أيضًا، والذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام سيل من الانتاج الغربيّ الذي لا مقابل له بالعربيّة (فخليل بيدس مثلًا كان من أوائل المترجمين الفلسطينيّين) وبالتالي كان على هؤلاء الكتّاب والمترجمين أن يبحثوا عن مقابل للكثير من الكلمات التي واجهوها خلال ترجمتهم أو خلال تفاعلهم اليوميّ مع الانجليز واليهود وانكشافهم على اللغتين العبريّة والانجليزيّة.

النفير، 3 أيار 1930

(​​اضغطوا هنا لتصفح العدد كاملا من مجلّة “النفير”​)

​هل نجحت الصحف في ذلك أم لا؟ هل أدّت مهمّتها كما يجب؟ وكيف يمكن قياس مستوى النجاح، أسئلة صعبة تحتاج بحوثًا معمّقة، لكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ الصحف ساهمت في تعزيز اللغة العربيّة مساهمة واضحة سواء من خلال المقالات التي أدرجتها والقضايا التي عالجتها، أو من خلال اللغة العربيّة نفسها التي استخدمتها لمخاطبة القرّاء لتحافظ بذلك على اللغة في مرحلة مهمّة من تشكيل الهويّة الفلسطينيّة المعاصرة.

أن نقرأ إميل حبيبي الشاب…

توفّر لنا الصحافة الفلسطينية فرصة ثمينة للاطّلاع على التشكيل الفكريّ المبكّر لأحد أبرز السياسيين والأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين.

توفّر لنا أعداد مجلتي “الغد” و”المهماز” الصادرتين بعد الحرب العالميّة الثانية، فرصة ثمينة للاطّلاع على التشكيل الفكريّ المبكّر لأحد أبرز السياسيين والأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين.

يُعد إميل حبيبي (1922-1996) رمزًا لنضال الفلسطينيين وتناقضاتهم اليومية وخاصّة بعد تحولّهم مواطنين في اسرائيل بعد العام 1948. عُرف من خلال نشاطه كعضو كنيست ممثّلًا للحزب الشيوعيّ الاسرائيليّ، تمامًا كما عُرف من خلال أدبه كرواية “المتشائل” وغيرها من الانتاجات، أو كفائز حاز على جائرة اسرائيل للأدب في مطلع التسعينيات وفي نفس الوقت جائزة القدس للثقافة الفلسطينيّة.

إميل حبيبي، كعضو كنيست شاب، 1951 (تصوير تيدي)

عبّر إميل حبيبي عن رؤيته السياسيّة بين دفّات الصحف الفلسطينيّة منذ سنوات الأربعينيات، في المقالات العديدة التي نشرها في مجلة “الغد” أو من خلال كتاباته في مجلة “المهماز” والذي كان أحد محرريها. كان ذلك، قبل أن يصير سياسيًّا وقبل أن يكون أديبًا يجوب أسمه الآفاق. إن قراءة في انتاجه المبكر تمكّننا من فهم عميق لتشكيل فكره السياسي والأيديولوجيّ، وتمنحنا فرصة فريدة لتأمل السياسة الفلسطينيّة في تلك الفترة من خلال عيني إميل حبيبي والذي كان يفكّر بمفاهيم أيدولوجيّة أمميّة وبنضالات تتجاوز حدودها المحليّة.

بالنسبة لإميل حبيبي الشاب: السياسة الفلسطينيّة، النضال ضد الصهيونيّة وضد الانتداب الانجليزيّ، كل ذلك هو جزء من نضال عالمي واسع، نضال الحريّة الوطنيّة أمام الاستعمار، أمام الفاشيّة والرجعيّة، سواء كانت داخل المجتمع وخارجه.

وفق إميل حبيبي فإنّ الفاشية والاستعمار خدموا بعضهم البعض، ففي مقاله الذي نُشر في العدد الأول من مجلة الغد في تموز 1945 (نشر قبلها في جريدة “الاتحاد”) هاجم حبيبي وبقسوة كافّة الأطراف في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والذين علقوا آمالهم على الفاشيّة الايطاليّة والألمانيّة، سواء من انتظر بصمت أن ينتصروا أو من أيّدهم علنًا تحت شعار “عدوّ عدوّي صديقي”. هذه الأطراف – كما يقول حبيبي – أخطأت وضلّلت الجمهور الفلسطينيّ من خلال دعمها للفاشية والتي هي بطبيعة الحال حركة استعماريّة في جوهرها. في ذات الوقت قدّموا خدمة لبريطانيا وللصهيونيّة من خلال صبغهم الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بمظهر العنصريّة وعدم الوعي.

مقال إميل حبيبي في العدد الأوّل من “الغد”

انتقد إميل حبيبي وبشكل حاد القيادات العربيّة خارج البلاد والتي رأت في الفاشية حركة يمكن استلهامها. فأنطون سعادة رئيس الحزب القوميّ الاجتماعيّ السوريّ والذي اختار لنفسه لقب “الزعيم” يلقبه حبيبي بالفيهرر، مستخدمًا اللفظ الألماني المقابل لكلمة زعيم، متهمًا إيّاه ومناصريه ومتبعي نظرية “عدو عدوي صديقي” بأنهم يقوّضون أساسات استقلال لبنان وفلسطين في ذات الوقت، يقوّضون فكرة “سوريا الكبرى” والوحدة العربيّة. رأى حبيبي أن هذه المشاريع كلها هي مشاريع بريطانيّة استعماريّة، خاصّة أنها تأتي في هذا الوقت الذي لم تتحرّر فيه بعد شعوب الشرق الأوسط.

“جرب الكردي” عن عودة الزعيم (أنطون سعادة)

مقال إميل حبيبي حول أنطون سعادة، كان واحدًا من سلسلة مقالات والتي نشرها حبيبي في مجلة الغد تحت عنوان “جراب الكردي” والتي تحدث فيها حبيبي عن أولئك الذين يحاولون تضليل الشعب الفلسطيني، ومن بينهم أيضًا وكالات الاعلام التي توفّر كافة الأخبار العالميّة للإعلام الفلسطيني. ربط حبيبي بين المصالح الاستعماريّة والمصالح الاقتصاديّة لوكالات الاعلام المحافظة والدول التي تقف من ورائها متهمًا إيّاها بتضليل الجمهور لأجل مصالحها. الوكالات هذه كما يدعى حبيبي هي شكل آخر من أشكال هذا الكردي المتنقل بجرابه، حيث لا يعرف أحد ما يحتويه جرابه. هذه الوكالات تحرّف، تغيّر، تناقض الأخبار بشكل عجيب، كي لا ينكشف الاستعمار، وكي لا تنكشف الأفاعي التي تربض أسلفهن.

يضيف حبيبي في موقع آخر، أنّ الادّعاءات الصهيونيّة والتي تروّج لها في الاعلام العالميّ عن الحضارة التي جلبتها لفلسطين، وعن حياة الفلسطينيين التي لا تناسب القرن العشرين، كل ذلك أيضًا يخرج من ذات “الجراب” العجيبة. تتحدث الصهيونيّة عن رجعيّة الفلّاح العربيّ، لكن الحقيقة هي أنّ الفلّاح نفسه تمت تحويله على يد الصهيونيّة والاستعمار لعامل مياوم[KA1] ، لا يملك أرضًا، يعيش في أحياء الصفيح كما يعيش أولئك في حي الحواسة على مشارف حيفا، هناك لا توفّر له حكومة الانتداب أو لعائلته لا مياهًا صالحة، ولا كهرباء، ولا تمنحه حتى رخصة للبناء. الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية هم من دمر فلسطين. وليست حياة الفلسطينيين ما لا يتناسب مع القرن العشرين بل أفعالهم هم.

​​

المقال الأول في سلسلة “جراب الكردي”

يصف إميل حبيبي الشاب النضال الوطنيّ الفلسطينيّ في نهاية الأربعينيات بمفاهيم أمميّة وفي سياق عالميّ. بالنسبة له المجتمع الفلسطيني مقسّم لطبقات وأيدولوجيّات: العمال والبرجوازيين، اليمين واليسار، الوطنيين المُدَّعين ومقاتلي الحرية الحقيقيين. عن علاقة الفلسطينيين بالصهيونية، الانجليز والمحيط العربي، والاقليمي، يرى إميل حبيبي الأمر كله، جزءاً من السياق، جزء من الصراع بين الأيدولوجيات الاستعمارية والعنصرية وبين الشعوب التي تناضل من أجل حريتها لأجل مستقبلها ومستقبل الانسانية.

إن هذا التوجه الذي يحمله حبيبي يتناقض تماماً مع الصورة التي وصف بها السياسة الفلسطينية في فترة الانتداب، كسياسة عائلية في مستواها الأولى، أو مناطقية أو دينية، والتي تعمل بمعزل عن التيارات السياسية الأخرى في حينها.

على الرغم من المقالات والتي تحمل توجهات عامة لفكر وعالم إميل حبيبي، إلا أنها تضل مقالات ثرية ومركبة تتيح لنا إمكانية فهم المجتمع الفلسطيني في فترته وفهم البنى الفكرية الأولى والتي ستشكل لاحقاً فكر أحد أبرز الأدباء الفلسطينيين.​