في الذاكرة: السينمائيّ الأوّل في فلسطين

قصة الفيلم الفلسطيني الأول لإبراهيم سرحان في مقابلات في الصحف الفلسطينية التاريخية.

كثيرٌ منّا يظنّ أنّ انطلاقة السّينما الفلسطينيّة جاءت متأخّرة كثيرًا عن انطلاقتها في العالم الغربيّ، فيقول كثيرون أنّ السينما قد نشأت بعد انطلاقة حركة المقاومة الفلسطينيّة خارج حدود فلسطين لمعايشة حياة الشعب الفلسطينيّ هُناك وبدأت في عرض كفاحه المسلّح في المخيّمات وقواعد الفدائيّين، إلّا أنّ الفيلم الأوّل من سينما المقاومة كان في الأردن في بداية سنوات السبعينات[1]، ولكن يعود بنا التاريخ إلّا أن يرجع بنا إلى عام 1935، عندما زار الملك سعود فلسطين، فلحقه من مكان إلى مكان: من اللدّ إلى يافا ومن يافا إلى تل أبيب، شاب يافاويّ هاوٍ للتصوير يُدعى “ابراهيم حسن سرحان”، ليصوّره في اللحظات المهمّة فقد كان الحاج أمين الحسينيّ يؤشّر له إلى تلك اللحظات كاستضافته على وجبات الطعام، تجوّله هُنا وهناك ولقاءه مع الناس.

صورة لإبراهيم سرحان أثناء تصوير الفيلم الأوّل له عام 1935

في مُقابلة أجراها المُخرج السينمائيّ والكاتب الصحفيّ قاسم حول معه، أشار سرحان إلى أنّ الفيلم عُرِضَ بعد إنجازه في مصيف روبين، وسينما أمبير في تل أبيب، ويُشير سرحان إلى أنّ الفيلم كان صامتًا، ولكنّه وضع في مكان العرض اسطوانة تُعطي مؤثّرات موسيقيّة، بحيث لم ينتبه أحد إلى أنّ الفيلم كان صامتًا.[2]

لم يكن الفيلم التوثيقيّ لزيارة الملك سعود إلى فلسطين هو الأخير، فقد وثّق أيضًا زيارة أحمد حلمي باشا عضو الهيئة العربية العليا، صوّرها وعرضها بعد أقل من ثلاث ساعات أمام الموفد، ممّا أثار إعجابه فأعطاه مبلغ 300 جنيه فلسطينيّ.

وقد كان الباحث عدنان مدانات قد ذكر في الموسوعة الفلسطينيّة أنّ سرحان قد اشترى كاميرا تُدار باليد، وقرأ كتبًا عن فنّ التصوير والعدسات والطبع والتحميض، وكان وحده يقوم بتطبيق ما يقرا، ويصنع الأجهزة بنفسه، بما فيها حتّى طاولة المونتاج.

المقابلة الأولى مع السينمائيّ الأوّل سرحان، كان قد أجراها قاسم حول في آذار عام 1974، بعد عرضٍ لأفلام سينمائيّة في مخيّم شاتيلا، وهناك أخبره أحد الحاضرين عن رجل يُدعى إبراهيم حسن سرحان، يعمل سمكريًّا الآن، إلّا أنّ كان مصوّرًا ومُخرجًا في “الزمنات”، فذهب إليه فورًا.

خلال المقابلة وكما يروي حول أنّ سرحان لم يكتفِ بهذا، إنّما عمل فيلمًا في 45 دقيقًا بعنوان أحلام تحقّقت، وهو عن حرم القدس كدعاية للأيتام، كان ذلك ليُثبت للناس أنّه يُمكن عمل شيء أسمه سينما بما يملك هو.

وترجع بنا المقابلة إلى الأربعينات من القرن الماضي، حين لم يكن يملكُ سرحان من المال سوى 15 جنيهًا فلسطينيًّا، إلّا أنّه يُريد أن يُسارع في تحقيق حلمه، فنشر في الصحف الفلسطينيّة إعلانًا عن افتتاح استديو فلسطين، ويطلب فيه وجوهًا للسينما، ووردته حوالي 12 ألف رسالة، ومع كُل رسالة مبلغ الاشتراك، فتجمّع عنده ما بين 1800-200 جنيه، ومن هناك انطلق في تأسيس استديو فلسطين، وهناك صنع بيديه طاولة بدائية للمونتاج والموفيولا.

إعلان عن الفيلم السينمائيّ الفلسطينيّ الأوّل  – صحيفة “الدفاع”  19.10.1944
عن صحيفة “الدفاع” في جرايد، اضغطوا هنا

وبالشّراكة مع أردنيّ قام بتسجيل شركة الأفلام العربيّة بالقدس، وهناك قام بإنتاج الفيلم الأوّل ولمدّة ساعتين بعنوان “في ليلة العيد”، ويحكي لنا سرحان أنّ الفيلم كان قائمًا على الحيل السينمائيّة وأحداث العصابات والكوميديا في الوقت نفسه، وكان حلمه أن ينتج فيلمًا روائيًّا بعنوان “عاصفة في بيت”، وبسبب التكلفة الباهظة لانتاج فيلم روائيّ طويل إنضمّ إليه شريك آخر، ولكن حالت دون إنهاء الفيلم، ولكنّنا نرى إعلانات شبه يوميّة في الصحافة الفلسطينيّة حول الفيلم، فنرى من إعلان نُشِرَ في صحيفة فلسطين يوم الرابع من كانون الثاني 1945 عن أنّ الفيلم من بطولة احمد سمحان وحياة فوزي، وبالاشتراك مع: أحمد اليمنى، خميس شبلاق، ابراهيم البسطامي، خميس مراد، والكوميديّ المحبوب صلاح سرحان.

                                                                               دعوة لمُنتسبي إدارة ستوديو فلسطين لزيارة موقع تصوير أحد الأفلام – إعلان في صحيفة “فلسطين” يوم 04.02.1945
عن صحيفة “فلسطين” في جرايد، اضغطوا هنا

بعد ذلك انطلق سرحان لتأسيس شركة للإعلانات عن البضائع والمحلّات التجاريّة، بالشّراكة مع الصحفيّ البارز الأستاذ زهير السقا – مالك مجلّة الحريّة الصادرة في يافا – وهناك قاموا بإنتاج أفلام قصيرة جدًا قبل عرض الأفلام في دور السينما في فلسطين، قسم كبير قد أنُجز بينما القسم الآخر بقي على النصف، وواحدة من هذه الأفلام يذكرُ سرحان كانت صورة أمين الحسيني مع العلم الفلسطينيّ،

قريبًا جدًا.. أوّل فيلم سينمائيّ في فلسطين  (إعلان من صحيفة “فلسطين” في 04.01.1945)

في عام 1948، هُجِّرَ سرحان إلى الأردن، وهناك عمل فيلمًا بعنوان “صراع في جرش”… بعدها توقّف سرحان عن العمل في السينما، وانتقل بعدها إلى لبنان للعمل كسمكريّ، لينتقل إلى جوار ربّه عام 1987 في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيّين.

ملاحظة على الهامش:

من الجدير بالذكر أنّ الناقد والموثّق والمُساهم الكبير في أرشفة إنتاجات السينما الفلسطينيّة بشّار إبراهيم ذكر في كتابه السينما الفلسطينيّة في القرن العشرين أنّ فلسطين قد عرفت التصوير السينمائيّ منذ الأخوين اوغست ولويس لوميير، اللذان يُنسب إليهما اختراع السينما، ففي العام 1896 قام عملاء للأخوين لوميير بتصوير لقطات سينمائيّة في القدس، وقام توماس أديسون بتصوير فيلم الرقص في القدس عام 1902. [3]

[1] السينما الفلسطينية – قاسم حول (صفحة 17)

[2] السينما الفلسطينية – قاسم حول (صفحة 10)

[3] السينما الفلسطينيّة في القرن العشرين – بشار ابراهيم (صفحة 18​​​)​​

القافلة تستجوب…

تابعت مجلّة القافلة، التي صدرت في القدس عام 1947، أخبار الشخصيّات الفلسطينيّة الاعتباريّة عرّفت القرّاء على النُخبة في زاوية "القافلة تستجوب".

الكاتب: خالد وليد أبو أحمد

 

تابعت مجلّة القافلة، التي صدرت في القدس عام 1947، أخبار الشخصيّات الفلسطينيّة الاعتباريّة، اتّبعتهم خطوة بخطوة، ونشرت أدقّ تفاصيلهم الشخصيّة، فقد سعت من خلال أعدادها على مُتابعتهم وتعريف القرّاء على النُخبة من أبناء الشعب الفلسطينيّ، من خلال زاوية كانت تدأب على نشرها دوريًّا بعنوان: “القافلة تستجوب”.

ضمن هذه الزاوية، استضافت المجلّة في كلّ مرّة، عددًا من الأطبّاء، المحامين، الأساتذة وغيرهم، فطرحت عليهم أسئلة مُشتركة لجمعيهم، ناشرة إجاباتهم على صفحاتها.

يوفر لنا العدد الصادر في الثلاثين من أيَّار 1947، إمكانيّة للتعرّف على ثلاثة أطبّاء فلسطينيّين وهم الدكتور توفيق كنعان، الدكتور محمود الدجاني والدكتور برهان عبد الهادي. حيث قابلتهم المجلة، فوجّهت خمسة أسئلة لهم، في هذه الأسئلة حاولت المجلّة التعرّف على الأطبّاء المعروفين من زاوية أخرى، فحرصت على التعرّف عليهم مهنيًّا وإنسانيًّا، فسألتهم حول الظروف التي ساقتهم إلى مهنة الطب، وعن رضاهم عنها، وما الذي يحفّز الأطبّاء على فتح عيادات لهم في القرى العربيّة؟ متسائلة إيّاهم عن المهنة التي كانوا سيختارونها لو عاد الزمن بهم؟ إضافة للموضوع الذي يميلون إلى القراءة في قراءته في أوقات فراغهم.

القافلة تستجوب أطبّاء ثلاثة – 30 أيّار 1947
القافلة تستجوب أطبّاء ثلاثة – 30 أيّار 1947

 

القافلة تستجوب مُحامين ثلاثة – 04 تمّوز 1947
القافلة تستجوب مُحامين ثلاثة – 04 تمّوز 1947

أما العدد الصادر بتاريخ الرابع من تمّوز 1947، فيوفّر لنا إمكانيّة التعرف على ثلاث محاميين وهم  المحامي أنور نسيبة، المحامي أنطون عطاالله والمُحامي أمين عقل. في هذا الاستجواب أيضًا حرصت المجلّة على توجيه أسئلة للتعرّف على فريق من المحامين، مستفسرة حول أسباب اختيارهم المُحاماة كمهنة لهم؟ وإذا ما كانوا يشعرون بانّ العقليّة “القانونيّة” تُسيطر عليهم في معاملاتهم مع الناس، وإذا كانوا يرون أنّه من الضروري تثقيف الشعب ثقافة قانونيّة؟ وكيف يكون ذلك؟ وحول رأيهم إذا كان من المُمكن أن يكون المحامي مشرّعًا أم لا، أم أنّ التشريع خاص بعلماء القانون؟ وآخر الأسئلة التي وُجّهت لهم كانت حول مطالعاتهم، وإلى أي مدى يتّسع وقتهم للمُطالعة؟ وماذا يُطالعون في أغلب الأحيان.

لم يكن عدد الثلاثين من أيّار ، هو الوحيد الذي استجوبت فيه “القافلة” الأطبّاء، ففي عددها الذي صُدِرَ في 22 آب 1947، وجّهت مجلّة “القافلة” لطائفة من أطبّاء فلسطين حول الموقف الأكثر إحراجًا الذي صادفهم إثناء قيامهم بمهنتهم؟ في هذا العدد استضافت المجلّة الدكتور حسام وفا الدجاني الدكتور مُصطفى بوشناق، وعلى هذا السؤال أجابوا ونشرته المجلّة على صفحتها الثامنة.

                                                   القافلة تستجوب الأطبّاء مرّة أخرى – 22 آب 1947

القافلة تستجوب الأساتذة – 29آب 1947
القافلة تستجوب الأساتذة – 29آب 1947

​أمّا في عددها الصادر في 29 آب 1947، فقد استجوبت المجلّة أساتذة عاملين في سلك التعليم، فاستجوبت فيه الاستاذ نهاد أبو غريبة والآنسة مقبولة مخلص، وفي هذا الاستجواب سألت حول الظروف التي ساقتهم إلى مهنة التعليم؟ وكيف ينال المعلّم المركز الاجتماعيّ اللائق به؟ وما هي الطرق الفعّالة التي ترونها صالحة لمحو الأميّة؟ وما الاتّجاه الحديث في التعليم؟ وحول إذا ما أثّرت المهنة في العلاقات مع الناس وكيف يكون ذلك؟

لا بُدَّ وأنّ المجلّة من خلال هذه الاستجوابات ارتأت أن تُساهم في تغيير الانطباع الجماهيري السائد حول الشخصيّات الاعتباريّة من أبناء البلاد، وأنّها سعت لتوعية الجمهور، وبالتالي لابدُّ وأنّ المجلّة حرصت على بناء وعي جماهيريّ، بالإضافة لتعريف الناس بنخب محليّة لتعزيز الشعور الوطنيّ والانتماء لبلد مليء بالشخصيّات المثقّفة، إضافة لتقريب هذه النخب من الناس، واستمالة هذه النخب عبر اعطاءها مساحة على صفحاتها للتعريف عن أنفسهم وعن مجالاتهم.

 

في ذكرى وفاة دارون؛ كيف قرأ العرب والمسلمون نظريّة التّطور؟

نقدّم لكم في هذه المقالة بمناسبة ذكرى رحيل تشارلز داروين مقتطفات من بعض الكتب العربيّة الّتي اهتمّت بنظريّة التّطوّر في الفكر العربيّ.

الصورة من منصة BBC

لا شكّ أن نظريّة التطوّر الغنيّة عن التعريف أثارت جدلًا حسّاسًا ما زال حاضرًا إلى اليوم. يضع المعتقدات الدينيّة على اختلافها في كفّة واحدة في مواجهة مع العلم في كفّة أخرى. أو على الأقل، هذا ما رآه كثيرون خلال العقود الّتي تلت خروج النّظريّة إلى النّور. والنّظر إلى قراءة الثقافات والحضارات المختلفة لها، والمتغيّرة على الدوام، يشكّل نافذة هامّة لقراءة التّعدديّة الكامنة في الثقافة الواحدة، وكيفيّة تعاملها الفكري مع محدثات العصر. وكما تقول مروة الشاكري، لقد طافت أفكار داروين الأرض أكثر مما طافها هو بنفسه. نقدّم لكم في هذه المقالة بمناسبة ذكرى رحيل تشارلز داروين مقتطفات من بعض الكتب العربيّة الّتي اهتمّت بنظريّة التّطوّر في الفكر العربيّ.

تعدّدت التوجهات الفكريّة تجاه نظريّة التطوّر والأدبيّات العلميّة المحيطة بها. والّتي وجدت طريقها إلى اللّغة العربيّة عبر ترجمات متعدّدة، كانت مجلّة “المقتطف” العلميّة الصّادرة في بيروت ومن ثم بالقاهرة منذ سبعينيّات القرن التّاسع عشر أبرزها. إذ اهتمّ كتّابها بالعلوم الحديثة ورغبوا بتقديمها لجمهور القرّاء العرب. وأظهروا اطّلاعًا مبكّرا على التّفسيرات والأدبيّات العالميّة اللاحقة لنظريّة التّطوّر والمفسّرة لها.

غلاف عدد حزيران 1876 من مجلة المقتطف، أرشيف الشّارخ الرّقمي.
غلاف عدد حزيران 1876 من مجلة المقتطف، أرشيف الشّارخ الرّقمي.

في كتابها “قراءة داروين في الفكر العربي”، تقوم د.مروة الشّاكري، الباحثة المصريّة وأستاذة التّاريخ المساعدة في جامعة كولمبيا، بتتبّع القراءات العربيّة المتنوّعة حول نظريّة التّطوّر في دراسة ضخمة ما بين منتصف القرن التّاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. ضمن إظهار سياقاتها السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المؤثّرة والمتباينة.

لا يقدّم الكتاب على كلّ حال تحليلًا للأفكار والجدليّات المذكورة بقدر ما يؤرّخ لها ويضعها في سياقها التّاريخيّ. وهي خطوة هامّة لمن يريد مساءلة دوافع وظروف الأفكار قبل الخوض بها. وهي رحلة تستطيعون من خلالها تتبّع وفهم مراحل هامّة ساهمت في تشكيل الثّقافة العربيّة المعاصرة، لا سيما فيما يخصّ قضايا جدليّة التّراث والحداثة، والعلم والنّصوص المقدّسة، الإصلاح والتّقدّم، الإسلام والاستشراق وغيرها من الجدليّات الّتي طبعت اهتمام الكثير من المفكّرين العرب في تلك المرحلة المفصليّة من عمر الدّولة العثمانيّة وما زالت حاضرة في المساعي الفكريّة العربيّة إلى اليوم. تقوم الشّاكري بذلك دون اقتطاع السّياق العربي والعثمانيّ من ذلك العالميّ كما يفعل بعض المؤرّخون بالنّظر إلى تاريخ الفكر العربيّ. ولا تفسّر نشوء تلك التّوجهات من منظور تلك الثّنائيّات بعينها، كأن تعتبرها تأثّرًا من الغرب أو العكس بشكلٍ تلقائي، إنّما بردّها إلى السياقات المتداخلة بطبيعة الحال.

أمّا الرّاحل د. محفوظ علي عزّام، أستاذ الفلسفة الإسلاميّة في كليّة الدّراسات الإسلامية والعربيّة في جامعة المنيا، فيشكّل كتابه “نظريّة التّطور عند مفكّري الإسلام – دراسة مقارنة” محاولة للإجابة والفصل في رأيٍ شاع لدى العديد من المفكّرين الإسلاميين في العصر الحديث، ويقول: بأن مفكّري الإسلام القدامى قالوا بنظريّة التّطور بالفعل، أو أن القرآن الكريم يوحي في عددٍ من آياته لتلك النّظريّة. مستدلّين بكتاب “الحيوان” للجاحظ على سبيل المثال وببعض التّفسيرات القرآنيّة. من هؤلاء المفكّرين كان إسماعيل مظهر في مقدّمته لترجمة “أصل الأنواع” والشّيخ طنطاوي جوهري في كتابه “الجواهر في تفسير القرآن” وغيرهم. وهو ما دفع عزّام لإصدار هذا الكتاب لحل “اللّبس” كما رآه.


يتألف الكتاب من أربعة أبواب يفصل بها بين مفهوم التّطوّر الداروينيّ والخلق الإسلاميّ وكيف نظر له المفكّرون والفلاسفة المسلمون. يستخلص عزّام في نهاية دراسته أن رفض نظريّة التّطور أو قبولها بدوافع نصوصيّة كانت أو فكريّة إسلاميّة أمرٌ غير ممكن، وأن القول بهذا ينطوي على مغالطات عديدة، إمّا في اعتماد تفسيرات محدودة لتلك الآيات أو لعدم فهم هؤلاء المفكّرين المسلمين، أو لخطأ في فهم نظريّة التّطوّر نفسها.

ولمن يبحث منكم عن كتابٍ بالعربيّة يشرح له النّظريّة وما تلاها من تفسيرات علميّة مؤيّدة أو معارضة، فستجدون كتاب “داروين والتّطور بمنظار العلماء المؤيّدين والمعارضين” لمدرّس العلوم الحمصيّ الأستاذ دعّاس ناصيف، الّذي لم يجد تعارضًا بين الإعجاب الشديد بالنّظرية والاتّفاق العقليّ معها وبين الإيمان الرّوحانيّ بالإله الخالق.

إذ يقول دعّاس: “لم يقصد داروين أبدًا إحداث شرخ بين العلم والدّين كان يحاول فقط وصف الطّبيعة كما رآها. وكثيرون هم الآن الذين يؤمنون بأن تكون متديّنًا وتقبل الحقائق العلميّة في الوقت نفسه يعتقدون أن الله خلق الحياة الأولى على الأرض وأن جميع القوانين المدهشة، بما في ذلك التّطور، نتج عن ذلك. إن تقبل بفكرة التّطوّر لا يعني أن تتخلّى عن مشاعرك الدّينيّة الخيّرة ومبادئك الرّوحيّة السّامية”. أو بكلمات “أندرو نكسون وايت” الدبلوماسيّ الأمريكيّ الّذي اتفق معه كما تحدّثنا شاكري “فارس نمر”، أحد ملّاك دار النّشر الّتي صدرت منها مجلّة المقتطف في القاهرة، فإن “لهذا الكون إلهًا يتمتّع بالحكمة التّي تجعل سائر مساعي البحث عن الحقيقة أمرًا آمنًا، ويتمتّع بالخير الّذي يجعل كافّة مساعي قول الحقيقة أمرًا مفيدًا”.

صوت المرأة العربية في يوم المرأة العالمي

بمناسبة يوم المرأة، تلفت هذه المقالة الأنظار للجهود الجماعيّة النسائية؛ حيثُ حملن الهمّ الوطنيّ والإنسانيّ في المجتمع الفلسطيني.

المؤتمر النّسائي للسيّدات العربيّات في فلسطين، الصفحة الرئيسيّة لجريدة الدّفاع، 17 تمّوز 1947، أرشيف جرايد.

 

في يوم المرأة العالميّ، حيث يحتفي العالم بمسيرة نضال النّساء حول العالم ومساعيهن إلى تحقيق ذواتهنّ ومساواتهنّ اقتصاديّا واجتماعيًا وثقافيًا، يكثر التذكير كذلك بأن تلك المساعي لم تكتمل بعد. وبأن المسيرة ما زالت طويلة وما زالت تستدعي التضحيات والجهود النسائية الحثيثة من أجل فهم سياقاتهنّ الآخذة بالتغيّر والوضوح مع مرور العقود، ومن أجل إعادة تشكيل وبلورة أساليب النضّال وصنع التغييّر في مختلف المجتمعات الانسانيّة والثّقافيّة.

ومع ذلك، لا بدّ من أخذ بعض الوقت للتأمل بما تغيّر من حولنا فيما يخصّ مكانة النّساء وفاعليّتهنّ في المجتمع، وأن نتذكّر سويّة بعض الرائدات من النساء العربيّات اللواتي قمن بأدوارٍ لا تنسى في إنارة العقول وإثراء الثّقافة العربيّة عامّة والفلسطينيّة خاصّة. وهو ما قمنا به في يوم المرأة العالميّ من العام الماضي. (للاطلاع عليها الرجاء الضغط هنا).

ارتأينا اليوم أن نتذكّر سويّة جهودًا جماعيّة نسائية، اذ تظهر لنا الصّحف الفلسطينيّة احتفاءً امتدّ لعقود بدور النساء العربيّات والفلسطينيّات بالشّراكة والقيادة في مختلف مجالات الحياة. إذ حملن الهمّ الوطنيّ والإنسانيّ الجامع كبوصلة لعملهنّ النسويّ المبكّر. وتشهد كذلك على وجود امتدادٍ عريق للعمل النّسويّ الجماهيريّ في فلسطين.

ثروت وملك ونعيمة واميلي؛ في الميدان كان عيدهن  

في يوم الثامن من آذار، نرى العديد من الأمسيات والمعايدات التي تمطر المرأة بعيدها الخاطف، وهذا لا يعني البتة بأن كل النساء كذلك، فخيرة من النساء العربيات في الأقطار العربية كان خيارهن خيار الميدان لتحصيل حقوقهن وكذلك حقوق غيرهن وكما أيضًا حقوق بلدهن، فهن دومًا كانوا عرين العروبة الذي واجه الاستعمار وكذلك المجتمع أحيانًا.

فجمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة التّي تأسست في القدس عام 1929 لخدمة الأيتام والمحتاجين من أبناء الشّعب الفلسطينيّ بالبداية، لم تكتف يومًا بالعمل الخيريّ الذي استمرّت بتقديمه لعقود، بل كانت شريكة في المناصرة من اجل فلسطين منذ سنوات عملها الأولى، فلم تتردّد بالمشاركة في الإضراب التاريخيّ الذي خاضه الفلسطينيّون عام 1936، وقامت بتمثيل قضيّة فلسطين في المؤتمرات النسائية العربيّة لاحقًا في لبنان عام 1937 وفي القاهرة عام 1944 وعيًا بضرورة إشراك التكتلات النسوية العربيّة خارج فلسطين بقضيّتهن الوطنيّة أيضًا.

عضوات جمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة برفقة هدى شعراوي، 1944 فندق                    الملك داود في القدس. من كتاب “جمعيّة السّيدات العربيّات”، 1985.

 

في عام 1945، كما أفادت جريدة الدّفاع، خرجت سيّدات دمشق في مظاهرة نسائية بالكامل، يرفعن الأعلام العربيّة واللافتات، يندّدن ويرفضن عقد معاهدة مع “فرنسا” التي كانت لا تزال قواتها في سوريا في ذلك الحين.

أمّا في القدس، فحضرت أكثر من ألف وخمسمائة سيّدة فلسطينية إلى مؤتمر السّيدات العربيّات الجامع في السادس عشر من تمّوز عام 1947. تفيد مقررّات المؤتمر بأن الغاية من عقده حملت وعيًا واضحًا بامكانية تجنيد النّساء لخدمة مساعي الشعب الفلسطينيّ حينها، من موقعها كعامود للاقتصاد الفلسطينيّ – اقتصاد العائلة. أدرك منظّمو المؤتمر كما يظهر في مقررّاته وفي خطاب حرم رئيس الهيئة العربيّة العليا، أن نجاح مقاطعة البضائع الأجنبيّة أو اليهوديّة والاكتفاء الذّاتي للفلسطينيين مرهونٌ بشراكة النّساء الفلسطينيّات وتدابيرهنّ. فقد جاء في قرارات المؤتمر إقامة لجنة اقتصاديّة مثلًا، تبحث في أسعار السّلع والمنتوجات الفلسطينيّة كيلا يعلو سعرها على المنتوجات الأخرى وتبقى خيار السيدات الأوّل في التبضّع. كما جاء أيضًا إقامة معارضٍ صناعيّة سنويّا للمنسوجات العربيّة عالية الجودة وحثّ النّساء على المقاطعة من جهة، وعلى ضمّ نساء أخريات ليلتزمن بالمزيد من التعليمات التي شدّد المؤتمر عليها، ومنها أيضًا حظر بيع الأراضي.

وفي شباط 1948، قدّمت صحيفتيّ الدّفاع وفلسطين التهنئة، وأثنت على عمل “الجمعيات النسوية بيافا”، إذ قامت الأخيرة بقيادة حملة للصليب الأحمر في يوم المرأة العربيّة بهدف جمع التبرّعات والأدوات اللازمة لتجهيز المستشفى الإنكليزيّ. فطفن بأرجاء المدينة ليطرقن الأبواب والدكاكين والمصالح لتحريك الناس وتهيئة المرافق اللازمة لخدمتهم من خير بلادهم. واشتمل ذلك على الأموال والحليّ وأنواعٍ أخرى من التبرّعات كالمعدّات المطبخيّة والصحون وحتى الكبريت والسّلال.

جريدة فلسطين، 24 شباط 1948، أرشيف جرايد.
جريدة فلسطين، 24 شباط 1948، أرشيف جرايد.

لم تكتف الجمعيّات النسوية بالتوجه إلى أفراد المجتمع من القاطنين والتجار وأصحاب المصالح بل توجّهت أيضًا لجمعيّات أهليّة أخرى كجمعيّة الإحسان مثلًا، للتعاون سويّة على استكمال نواقص المشفى من أسرّة ومعدّات طبّية. نرى هنا مسؤوليّة مجتمعيّة حملتها النساء لإعانة مجتمع بأكمله بل وتحريكه من أجل خدمة نفسه، بتدابير و”شطارة”، ليست غريبة على المرأة العربيّة. وهو ما أدركته الصحيفتان، ووصفته بالتفصيل لتذكر أسماء النّساء وكلّ ما قدّمت كلّ منهنّ للحملة في ذلك اليوم؛ثروت وملك ونعيمة واميلي وغيرهن..

بالتأكيد لا يخلو الأمر من الحساسيّات الخاصّة بكل مرحلة من تشكّل حركة نسويّة ما. فكما هو الحال حول العالم، تعاملت النساء الفلسطينيّات مع محاولات من قبل جهات مختلفة لقمع أعمالهنّ أو للتأثير على حياتهنّ وحركتهن والحد من إمكانيّاتهنّ، وهو ما تشهد تلك الصحف كذلك بعناد تلك التآلفات النسائية في العودة الى مواجهة تلك الجهات ومواصلة العمل.

ففي نابلس عام 1974، اعتصمت النساء وأعلنّ الاضراب احتجاجًا على “الاعتقالات والتعذيب والمس بالإنسان” ومساندة للإضراب الذي كان قد انطلق بالفعل في رام الله واستجابة للاتحاد العام لنقابات العمّال. إذ ذكرت صحيفة الاتّحاد في الرّابع عشر من أيّار “وتحوّلت قاعة بلديّة نابلس أمس الاول (الاحد) مسرحًا لنضال النساء ضد الاحتلال، حيث تجمّع عشرات النساء من امّهات وزوجات وأخوات وبنات المعتقلين، فأعلن اضراب جلوس استمرّ حتى ساعات الظّهر” وهو ما حدث في ساحة بلديّة رام الله قبل ذلك بأسبوع أيضًا.

اعتصام نسوي ضد الاعتقالات والتعذيب، جريدة الاتحاد، 4 أيار 1974، أرشيف جرايد

 

أمّا جمعيّة السيّدات العربيّات الفلسطينيّة الّتي فقدت مقرّها عام 1948، فعادت إلى نشاطها عام 1951 برئاسة زهيّة النّشاشيبي بافتتاح مدرسة لمحو الأميّة ومشاغل للخياطة وغيرها من المشاريع الّتي استمرّت الجمعية بالقيام بها حتى استقرّت من جديد في وادي الجوز عام 1980.

من رسائل زوّار مقرّ جمعيّة السيدات العربيّات في حي المصرارة. من كتاب “جمعيّة                                             السّيدات العربيّات”، 1985

شواهد بسيطة ومحطّات صعبة، قد يراها البعض كحوادث عينيّة لا تقول الكثير بالضرورة. لكنّها شكّلت في حينها بذور للعمل النسوي المستقل والمشتبك مع كافة قضايا المجتمع الذي هو فيه. عملٌ ما زال قيد المحاولة والعناد والمواصلة في يومنا. تقدنه نساء أخريات، قد نعرف بعضهنّ، ومعظمهنّ جنديّات مخفيّات يقمن بما قمن به ثروت وملك ونعيمة وأكثر..